﴾ (الشرح: 1-
أولاً- نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق.
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة, وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد، وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة, وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
ثانيًا-قوله تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(1)
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، بالسكون. وقرأ أبو جعفر المنصور:﴿ أَلَمْ نَشْرَحَ ﴾، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل: ألم نشرحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا. وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها.
وفي( البحر المحيط ) لأبي حيان:” أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ﴿ لَمْ ﴾، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره: أن منهم من ينصب بها، ويجزم بـ﴿ لَنْ ﴾، عكس المعروف عند الناس. وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما **ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها؛ كالكسر في قراءة:
﴿ الْحَمْدِ للّهِ ﴾(الفاتحة: 2)
بالجر، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق“.
ثالثًا- وفي المراد بهذا الشرح- على ما ذكر- أقوال:
أحدهما:أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي أن جبريل عليه السلام أتاه، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، ووضعه في صدره. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به، وهو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة.. وهذا القول ضعيف عند المحققين.
وثانيها:أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وثالثها:أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدّين، الذّي جاء به من النصر.
ورابعها:أن المراد به تنوير صدره صلى الله عليه وسلم بالحكمة، وتوسيعه بالمعرفة، لتلقي ما يوحى إليه. قال الله تعالى:
﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾(الزمر: 22)
وروي أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر ؟ قال:”نعم! “قالوا: وما علامة ذلك ؟ قال:” التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله “.
وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت.
وخامسها:منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام؛ حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق، ولا يضجر، ولا يتغير؛ بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كلف به.
والشرح في اللغة التوسعة، ومعناه: الإراحة من الهموم والغموم. والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ: ضيقَ صدرٍ؛ كقوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾(الحجر: 97)
والأصل في الشرح: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه: الشريحة من اللحم، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني. ومنه قولهم: شرَح المُشْكِلَ، أو الغامِضَ من الأمر. أي: فسَّره، وبسطَه, وأظهر ما خفِي من معانيه.. وكذلك شاع استعماله في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها، فقيل: شرح الله صدره بكذا. أي: سرَّه به. ومنه: شرح الله صدره للإسلام، فانشرح. أي: انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي، والسكينة الروحية. قال تعالى:
﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾(الأنعام: 125)
رابعًا- والاستفهام في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟ معناه: إثبات الشرح وإيجابه؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي، ردته إلى الإيجاب. وإلى هذا أشار مكي في إعرابه للآية الكريمة بقوله في(مشكل إعراب القرآن ):” الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا “.
والغرض من هذا الاستفهام: التذكير والتنبيه، والمعنى: شرحنا لك صدرك. وإلى هذا أشارالزمخشري بقوله عند تفسير الآية:” استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به “.
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن هذا الاستفهام هو استفهام تقرير، مثله في قوله تعالى:
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 172)، وقوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾(الزمر: 36)
فيخلطون بين استفهام التذكير والتنبيه، وغيره، وبين استفهام التقرير. ولتوضيح الفرق بينهما أقول: إذا قيل: أليس زيد مسافرًا ؟ احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: أن السائل لم يعلم شيئًا عن سفر زيد، فيجاب حينئذ بـ( لا ) في النفي. وبـ( نعم) في الإيجاب.
والثاني: أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكنه يسأل عنه لغرض آخر؛ كالتذكير، أو التنبيه، أو التعجب، أو الإنكار، أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام، فيجاب حينئذ بـ( بلى ). وعلى التنبيه والتذكير يحمل قوله تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟وقول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا **وأندى العالمين بطون راح
فإذا قيل: ألم تعلم بأن زيدًا مسافر ؟ أليس زيد بمسافر ؟ لم يحتمل ذلك إلا معنى واحدًا، وهو أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكن غرضه من السؤال تقرير المخاطب؛ لأنه جاحد به بعد أن علمه، ولا يجاب إلا بـ( بلى ). وعلى هذا يحمل قول الله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ﴾(الأحقاف: 34)، وقوله تعالى:
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾(الأعراف: 172)
وهذا هو سر دخول هذه الباء على خبر المنفي، وهو من الأسرار الدقيقة، التي لا يكاد يُفْطَنُ إليها في البيان القرآني المعجز لدقَّتها !
ومما يحمل على الأول، فيحتمل فيه الاستفهام أن يكون على حقيقته من طلب الفهم، وأن يكون مرادًا به معنى آخر من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام قول فرعون لعنه الله:
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾(الزخرف: 51)
فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم أن له ملك مصر، ويحتمل أن يكون عالمًا بذلك؛ ولكنه أورده على سبيل الافتخار.
وقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾(هود: 78)
أي: رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه. فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا، ويحتمل أن يكون الغرض منه الإنكار.
وعلى هذا يجري قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾؟
فهذا استفهام يراد به التذكير والتنبيه، لا التقرير. ولو كان المستفهِم- هنا- غير الله جل وعلا، لجاز حمله على أصله من طلب الفهم.
أما حمله على استفهام التقرير فلا يحوز بحال من الأحوال؛ لأن حمله على ذلك يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلمكان جاحدًا لشرح الله تعالى له صدره، ورفعه له ذكره، ووضعه عنه وزره، بعد أن استقر علم ذلك عنده، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك .. وإنما ذلك تنبيه له وتذكير.. فتأمل !
وإذا كانوا لا يفرقون بين قوله تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح: 1)، وبين قوله تعالى:
﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾(الأعراف: 172)
فلأن معنىالتقرير- عندهم- هو الإثبات، ولا دليل لهم على ذلك سوى أن كلاًّ منهما يجاب بـ( بلى ) في الإيجاب.والفرق بينهما: أن كل تقرير إثبات، وليس كل إثبات بتقرير. وأن التقرير هو غرض من الأغراض، التي يخرج إليها الاستفهام عندما يكون معناه الإثبات، مثله في ذلك: التذكير، أو التنبيه، أو التوبيخ، أو الافتخار..
وقد كان عدم تفريقهم بين الإثبات، والتقرير سببًا في اختلافهم في المراد من الاستفهام الداخل على النفي، في كثير من آي القرآن الكريم؛ ومن الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾(العنكبوت: 68، والزمر: 32)
قال الزمخشري:”أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار، دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير“.
وقال أبو السعود، وتبعهالألوسي:”تقرير لثوائهم فيها؛ كقول من قال:
ألستم خير من ركب المطايا
أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى، والتكذيب بالحق الصريح.. أو: إنكار، واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب، مع علمهم بحال الكفرة. أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا هذه الجراءة “.
وكون الاستفهام- هنا- للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار. والجمهور على أنه للتقرير. والتقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر علمه عنده، ثم جحد به. فهل كان الكافرون مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من هذا الاستفهام التقرير؛ وإلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير، وقد سمَّاه السيوطي في ( الإتقان ) بالاكتفاء، ومثَّل له بقوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾(الزمر: 60)
أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق ؟
ومن ذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير. وقال الزركشي:”الكلام مع التقرير موجب، وجعل الزمخشري منه:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي، لا التقرير بالنفي.. والأوْلى أن يجعل على الإنكار. أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ “.
وذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام: التنبيه.. وذهب ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض.. ورده أبو حيان قائلاً:”بل هذا استفهام معناه: التقرير “.
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الرازي، ونصَّه الآتي:” أما قوله:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى، على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار “.
ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير.
خامسًا-وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، بصيغة الجمع، ولم يقل:{ ألم أشرح لك صدرك }، بصيغة المفرد. والجواب- كما قال الرازي-:”إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها.
وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى: كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك، وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابًا. فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك.. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم “.
وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{ ألم نشرح صدرك }، بدون﴿ لَكَ ﴾؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين:
الفائدة الأولى:هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه، لما ذكر فعل:﴿ نَشْرَحْ ﴾، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا. فلما قال:﴿ لَكَ ﴾، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق. فلما قال:﴿ صَدْرَكَ ﴾، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن.. وكذلك قوله تعالى:
﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾،﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان:”إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “.
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)
فإن﴿ اشْرَحْ ﴾يفيد طلب شرح شيء مَّا، و﴿ صَدْرِي ﴾يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك قوله:
﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ (طه: 26)
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد. وكذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم.
والفائدة الثانية:أن في زيادة ﴿ لَكَ ﴾تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا. وفي ذلك تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله.
ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)
فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم، على خلاف ملوك الدنيا.
وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، ولم يقل:{ ألم نشرح لك قلبك }، مع أنه المراد هنا، ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾(الناس: 5)
وكان الظاهر يقتضي أن يقال:{ يوسوس في قلوب الناس }؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية- هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:
﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾(آل عمران: 154)
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر.
ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم. ودليلهم على ذلك قوله تعالى:﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾(العنكبوت: 49)
وقال محمد بن علي الترمذي:”القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان. فالشيطان يجيء إلى الصدر، الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة “.
سادسًا-وقوله تعالى:﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾(2- 3)قراءة العامة، وقرأ أنس:{ حططنا }و{ حللنا }بدلاً من قوله:﴿ وَضَعْنَا ﴾. وقرأ ابن مسعود:{ عنك وقرك }، بدلاً من قوله:﴿ وِزْرَكَ ﴾.
والوضع- في اللغة- هو إلقاء الحمل على الأرض، وهو أعمُّ من الحطِّ. والوزر يقال للحمل، ويقال لثقل الذنب، وفي وضعه عنه عليه الصلاة والسلام كناية عن عصمته من الذنوب، وتطهيره من الأدناس، وعبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك.
وقيل: وضع الله تعالى عنه عبئه، الذي أثقل ظهره، حتى كاد يحطمه من ثقله. وضعَه عنه بشرح صدره له، فخف وهان. ووضعه بتوفيقه وتيسيره للدعوة ومداخل القلوب، وبالوحي، الذي يكشف له عن الحقيقة، ويعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين.
وقوله تعالى:﴿ وَضَعْنَا ﴾معطوف بالواو على قوله:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، وجاز ذلك؛ لأن الأول في معنى الإثبات، فحمل الثاني على معنى الأول. ولو كان محمولاً على لفظه، لوجب أن يقال: ونضع عنك وزرك. ومثله في ذلك قوله تعالى:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾.
وقوله تعالى:﴿ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾صفة للوزر. قال علماء اللغة: الأصل فيه: أن الظهر إذا أثقله الحمل، سُمِع له نقيض. أي: صوت خفيٌّ. والمراد بهذا النقْض: صوت الأضلاع. وهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره.
قال النحاس:”فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل، وهو مغفور له، غير مطالب به ؟ فالجواب: أن سبيل الأنبياء- صلوات الله عليهم- والصالحين، إذا ما ذكروا ذنوبهم، أن يشتدَّ غمُّهم وبكاؤهم؛ فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل “.
سابعًا-وقوله تعالى:﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾(4)
معناه: أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى, قبل أن يرفعه له في الأرض، حين جعل اسمه عليه الصلاة والسلام مقرونًا باسمه جل وعلا. ورفع له ذكره في اللوح المحفوظ, حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون, وتكر الأجيال, وملايين الشفاه في كل مكان، تهتف بهذا الاسم الكريم, مع الصلاة والتسليم. ورفع له ذكره، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي الرفيع. وكان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر، لم ينلها أحد من قبل، ولا من بعد في هذا الوجود. وليس بعد هذا الرفع رفعٌ، وليس وراء هذه المنزلة منزلة.. إنه المقام، الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين.
وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك:” لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي “. وفيه حديث مرفوع، أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:” أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله تعالى أعلم ! قال: إذا ذكرتُ، ذكرتَ معي “.
ولا يخفى ما في هذا الرفع لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف، بعد ذلك الوضع لأعبائه عنه. هذا الرفع، الذي تهون معه كل مشقة وتعب وعناء، وليس بعد هذا التكريم تكريم، وليس بعد هذا العطاء عطاء !
ثامنًا-ومع هذا كله، فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار, ويسرِّي عنه, ويؤنسه, ويطمئنه، ويطلعه على اليسر، الذي لا يفارقه، فيقول:
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾(5-6)
والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب، والعمل المقصود. وتعريفه للعهد. واليسر ضد العسر؛ وهو: سهولة تحصيل المرغوب، وعدم التعب فيه، وتنكيره في الموضعين للتفخيم والتعظيم؛ كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا ! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم، مَسوقٌ للتسلية، والتنفيس.
وقوله تعالى في الحملة الثانية:﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾يحتمل وجهين من التأويل:
الوجه الأول: أنه تكرير للجملة السابقة، لتأكيد معناها، وتقريره في النفوس، وتمكينه في القلوب، وهو نظير قولك: إن مع الفارس رمحًا، إن مع الفارس رمحًا، وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح؛ وذلك للإطناب والمبالغة. فعليه يكون اليسر فيها عين اليسر في الأولى، والمراد به ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يسر الدنيا مطلقًا.
والوجه الثاني: أنه ليس بتكرير للأول؛ وإنما هو تأسيس، ويكون الحاصل من الجملتين: أن مع كل عسر يسرين عظيمين. والظاهر أن المراد بذينك اليسرين: يسر دنيوي، ويسر أخروي. وفي حديث ابن مسعودأنه لما قرأ:
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾
قال:” لن يغلب عسر يسرين “. قيل: معناه: أن العسر بين يسرين؛ إما فرج عاجل في الدنيا، وإما ثواب آجل في الآخرة.
وقال الكرماني في( أسرار التكرار في القرآن ):” قوله تعالى:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ ليس بتكرار؛ لأن المعنى: إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل. فالعسر واحد واليسر اثنان “.
وعلى هذا يكون قوله تعالى:﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول. قال الألوسي:”واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد. كيف، وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما ! والمقام- كما تقدم- مقام التسلية والتنفيس.
وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر“.
والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مُرَدَّدًا بلفظ واحد. ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد. والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز..أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.
وظاهر المعية في قوله تعالى:﴿ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن﴿ مَعَ ﴾ ظرف يدل على المصاحبة. ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن ﴿ مَعَ ﴾- هنا- مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:
﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾(الطلاق: 7)
ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال عليه الصلاة والسلام:” لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله تعالى:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. إلخ ﴾. ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. ﴾.
تاسعًا- ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل وعلا لمواقع التيسير, وأسباب الانشراح, ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول سبحانه وتعالى:
﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾(الشرح: 7-
أي: إذا فرغت من عبادة- كتبليغ الوحي- فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه عز وجل، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، إذا ما فرغ من عبادة، أتبعها بأخرى.
والفراغ- في اللغة- خلاف الشُّغل. يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ. قال تعالى:
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ﴾(الرحمن: 31)
وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان. وقوله تعالى:
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً ﴾(القصص: 10)
قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف. وقيل: فارغًا من ذكره. أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم. وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال:
﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾(القصص: 10)
وظاهر قوله تعالى:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل﴿ فَرَغْتَ ﴾. وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره.
وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وجوعه من إحدى غزواته:” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.
وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى:﴿ فَانْصَبْ ﴾. أما قوله:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ ﴾ فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال، ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى؛ ولهذا قدِّم قوله:﴿ فَرَغْتَ ﴾ على قوله:﴿ فَانْصَبْ ﴾.
وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع، عقب وقوع الشرط مباشرة. وعليه يكون قوله تعالى:﴿ فَانْصَبْ ﴾ أمرًا بإحداث الفعل فورًا، بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير.
ثم أمره تعالى بأن يرغب إلى ربه وحده، فقال سبحانه:
﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾
أي: اصرف وجوه الرغبات إلى ربك وحده، لا إلى سواه، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقوله تعالى:﴿ فَارْغَبْ﴾ هو من الرَّغْبَة. والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾(الأنبياء: 90)
أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا.
فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه. قال تعالى:
﴿ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾(التوبة: 59)
وعلى هذا يحمل قوله تعالى هنا:﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾(الصافات: 99)
وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله تعالى:
﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ ﴾(مريم:46)، وقوله تعالى:
﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾(النساء: 127)
فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:” وترغبون عن أن تنكحوهن“.
وقدم قوله تعالى:﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ على قوله:﴿ فَارْغَبْ ﴾، لإفادة معنى الاختصاص. أي: لتكن رغبتك إلى ربك، لا إلى غيره ؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الرب جل وعلا، الذي وعده في سورة الضحى أن يعطيه، حتى يرضى:
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾(الضحى: 5)
وقد حقق له سبحانه هذا الوعد في هذه السورة، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأعطاه من خير الدنيا والآخرة ما لم يعطه لأحد من قبله، ولا بعده.
ولم تمنع الفاء في قوله تعالى:﴿فَارْغَبْ ﴾، من تقديم المعمول:﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾، خلافًا للمشهور من أقوال النحاة؛ ولهذا نجدهم يتكلفون، فيقدرون عاملاّ محذوفًا لقوله:﴿ فَارْغَبْ ﴾، فيقولون: تقدير الكلام: وارغب إلى ربك، فارغب إليه. أو: وارغب إلى ربك، فارغبه.
والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل والتقدير ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك.. والله تعالى أعلم !
وهنا تنتهي السورة الكريمة، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: شعور بعظمة الودِّ الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه الودود الرحيم. وشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:” مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ، فكأنَّما جاءَنِي، وأنَا مُغْتمٌّ، ففرَّجَ عَنِّي “.
أولاً- نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق.
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة, وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد، وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة, وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
ثانيًا-قوله تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(1)
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، بالسكون. وقرأ أبو جعفر المنصور:﴿ أَلَمْ نَشْرَحَ ﴾، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل: ألم نشرحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا. وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها.
وفي( البحر المحيط ) لأبي حيان:” أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ﴿ لَمْ ﴾، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره: أن منهم من ينصب بها، ويجزم بـ﴿ لَنْ ﴾، عكس المعروف عند الناس. وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما **ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها؛ كالكسر في قراءة:
﴿ الْحَمْدِ للّهِ ﴾(الفاتحة: 2)
بالجر، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق“.
ثالثًا- وفي المراد بهذا الشرح- على ما ذكر- أقوال:
أحدهما:أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي أن جبريل عليه السلام أتاه، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، ووضعه في صدره. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به، وهو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة.. وهذا القول ضعيف عند المحققين.
وثانيها:أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وثالثها:أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدّين، الذّي جاء به من النصر.
ورابعها:أن المراد به تنوير صدره صلى الله عليه وسلم بالحكمة، وتوسيعه بالمعرفة، لتلقي ما يوحى إليه. قال الله تعالى:
﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾(الزمر: 22)
وروي أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر ؟ قال:”نعم! “قالوا: وما علامة ذلك ؟ قال:” التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله “.
وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والاستعداد للموت.
وخامسها:منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام؛ حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق، ولا يضجر، ولا يتغير؛ بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كلف به.
والشرح في اللغة التوسعة، ومعناه: الإراحة من الهموم والغموم. والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ: ضيقَ صدرٍ؛ كقوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾(الحجر: 97)
والأصل في الشرح: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه: الشريحة من اللحم، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني. ومنه قولهم: شرَح المُشْكِلَ، أو الغامِضَ من الأمر. أي: فسَّره، وبسطَه, وأظهر ما خفِي من معانيه.. وكذلك شاع استعماله في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها، فقيل: شرح الله صدره بكذا. أي: سرَّه به. ومنه: شرح الله صدره للإسلام، فانشرح. أي: انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي، والسكينة الروحية. قال تعالى:
﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾(الأنعام: 125)
رابعًا- والاستفهام في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟ معناه: إثبات الشرح وإيجابه؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي، ردته إلى الإيجاب. وإلى هذا أشار مكي في إعرابه للآية الكريمة بقوله في(مشكل إعراب القرآن ):” الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا “.
والغرض من هذا الاستفهام: التذكير والتنبيه، والمعنى: شرحنا لك صدرك. وإلى هذا أشارالزمخشري بقوله عند تفسير الآية:” استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به “.
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن هذا الاستفهام هو استفهام تقرير، مثله في قوله تعالى:
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾(الأعراف: 172)، وقوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾(الزمر: 36)
فيخلطون بين استفهام التذكير والتنبيه، وغيره، وبين استفهام التقرير. ولتوضيح الفرق بينهما أقول: إذا قيل: أليس زيد مسافرًا ؟ احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: أن السائل لم يعلم شيئًا عن سفر زيد، فيجاب حينئذ بـ( لا ) في النفي. وبـ( نعم) في الإيجاب.
والثاني: أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكنه يسأل عنه لغرض آخر؛ كالتذكير، أو التنبيه، أو التعجب، أو الإنكار، أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام، فيجاب حينئذ بـ( بلى ). وعلى التنبيه والتذكير يحمل قوله تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟وقول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا **وأندى العالمين بطون راح
فإذا قيل: ألم تعلم بأن زيدًا مسافر ؟ أليس زيد بمسافر ؟ لم يحتمل ذلك إلا معنى واحدًا، وهو أن السائل يعلم بسفر زيد؛ ولكن غرضه من السؤال تقرير المخاطب؛ لأنه جاحد به بعد أن علمه، ولا يجاب إلا بـ( بلى ). وعلى هذا يحمل قول الله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ﴾(الأحقاف: 34)، وقوله تعالى:
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾(الأعراف: 172)
وهذا هو سر دخول هذه الباء على خبر المنفي، وهو من الأسرار الدقيقة، التي لا يكاد يُفْطَنُ إليها في البيان القرآني المعجز لدقَّتها !
ومما يحمل على الأول، فيحتمل فيه الاستفهام أن يكون على حقيقته من طلب الفهم، وأن يكون مرادًا به معنى آخر من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام قول فرعون لعنه الله:
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾(الزخرف: 51)
فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم أن له ملك مصر، ويحتمل أن يكون عالمًا بذلك؛ ولكنه أورده على سبيل الافتخار.
وقوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام:
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾(هود: 78)
أي: رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح، ويمنعكم منه. فهذا يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا، ويحتمل أن يكون الغرض منه الإنكار.
وعلى هذا يجري قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾؟
فهذا استفهام يراد به التذكير والتنبيه، لا التقرير. ولو كان المستفهِم- هنا- غير الله جل وعلا، لجاز حمله على أصله من طلب الفهم.
أما حمله على استفهام التقرير فلا يحوز بحال من الأحوال؛ لأن حمله على ذلك يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلمكان جاحدًا لشرح الله تعالى له صدره، ورفعه له ذكره، ووضعه عنه وزره، بعد أن استقر علم ذلك عنده، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك .. وإنما ذلك تنبيه له وتذكير.. فتأمل !
وإذا كانوا لا يفرقون بين قوله تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح: 1)، وبين قوله تعالى:
﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾(الأعراف: 172)
فلأن معنىالتقرير- عندهم- هو الإثبات، ولا دليل لهم على ذلك سوى أن كلاًّ منهما يجاب بـ( بلى ) في الإيجاب.والفرق بينهما: أن كل تقرير إثبات، وليس كل إثبات بتقرير. وأن التقرير هو غرض من الأغراض، التي يخرج إليها الاستفهام عندما يكون معناه الإثبات، مثله في ذلك: التذكير، أو التنبيه، أو التوبيخ، أو الافتخار..
وقد كان عدم تفريقهم بين الإثبات، والتقرير سببًا في اختلافهم في المراد من الاستفهام الداخل على النفي، في كثير من آي القرآن الكريم؛ ومن الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾(العنكبوت: 68، والزمر: 32)
قال الزمخشري:”أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار، دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير“.
وقال أبو السعود، وتبعهالألوسي:”تقرير لثوائهم فيها؛ كقول من قال:
ألستم خير من ركب المطايا
أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى، والتكذيب بالحق الصريح.. أو: إنكار، واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب، مع علمهم بحال الكفرة. أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا هذه الجراءة “.
وكون الاستفهام- هنا- للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار. والجمهور على أنه للتقرير. والتقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر علمه عنده، ثم جحد به. فهل كان الكافرون مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من هذا الاستفهام التقرير؛ وإلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير، وقد سمَّاه السيوطي في ( الإتقان ) بالاكتفاء، ومثَّل له بقوله تعالى:
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾(الزمر: 60)
أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان، بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق ؟
ومن ذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير. وقال الزركشي:”الكلام مع التقرير موجب، وجعل الزمخشري منه:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(البقرة: 106)
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي، لا التقرير بالنفي.. والأوْلى أن يجعل على الإنكار. أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ “.
وذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام: التنبيه.. وذهب ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض.. ورده أبو حيان قائلاً:”بل هذا استفهام معناه: التقرير “.
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب هو قول الرازي، ونصَّه الآتي:” أما قوله:
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى، على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار “.
ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير.
خامسًا-وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، بصيغة الجمع، ولم يقل:{ ألم أشرح لك صدرك }، بصيغة المفرد. والجواب- كما قال الرازي-:”إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها.
وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى: كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك، وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابًا. فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك.. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم “.
وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{ ألم نشرح صدرك }، بدون﴿ لَكَ ﴾؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين:
الفائدة الأولى:هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح للتشويق؛ فإنه سبحانه، لما ذكر فعل:﴿ نَشْرَحْ ﴾، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا. فلما قال:﴿ لَكَ ﴾، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق. فلما قال:﴿ صَدْرَكَ ﴾، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن.. وكذلك قوله تعالى:
﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾،﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان:”إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذا حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة “.
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)
فإن﴿ اشْرَحْ ﴾يفيد طلب شرح شيء مَّا، و﴿ صَدْرِي ﴾يفيد تفسيره وبيانه. وكذلك قوله:
﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ (طه: 26)
والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد. وكذلك قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم.
والفائدة الثانية:أن في زيادة ﴿ لَكَ ﴾تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا. وفي ذلك تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله.
ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام:
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25)
فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم، على خلاف ملوك الدنيا.
وقال تعالى:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾، ولم يقل:{ ألم نشرح لك قلبك }، مع أنه المراد هنا، ومثل ذلك قوله تعالى:
﴿ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾(الناس: 5)
وكان الظاهر يقتضي أن يقال:{ يوسوس في قلوب الناس }؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية- هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له. ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى:
﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾(آل عمران: 154)
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر.
ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم. ودليلهم على ذلك قوله تعالى:﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾(العنكبوت: 49)
وقال محمد بن علي الترمذي:”القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان. فالشيطان يجيء إلى الصدر، الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة “.
سادسًا-وقوله تعالى:﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾(2- 3)قراءة العامة، وقرأ أنس:{ حططنا }و{ حللنا }بدلاً من قوله:﴿ وَضَعْنَا ﴾. وقرأ ابن مسعود:{ عنك وقرك }، بدلاً من قوله:﴿ وِزْرَكَ ﴾.
والوضع- في اللغة- هو إلقاء الحمل على الأرض، وهو أعمُّ من الحطِّ. والوزر يقال للحمل، ويقال لثقل الذنب، وفي وضعه عنه عليه الصلاة والسلام كناية عن عصمته من الذنوب، وتطهيره من الأدناس، وعبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك.
وقيل: وضع الله تعالى عنه عبئه، الذي أثقل ظهره، حتى كاد يحطمه من ثقله. وضعَه عنه بشرح صدره له، فخف وهان. ووضعه بتوفيقه وتيسيره للدعوة ومداخل القلوب، وبالوحي، الذي يكشف له عن الحقيقة، ويعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين.
وقوله تعالى:﴿ وَضَعْنَا ﴾معطوف بالواو على قوله:﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾، وجاز ذلك؛ لأن الأول في معنى الإثبات، فحمل الثاني على معنى الأول. ولو كان محمولاً على لفظه، لوجب أن يقال: ونضع عنك وزرك. ومثله في ذلك قوله تعالى:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾.
وقوله تعالى:﴿ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾صفة للوزر. قال علماء اللغة: الأصل فيه: أن الظهر إذا أثقله الحمل، سُمِع له نقيض. أي: صوت خفيٌّ. والمراد بهذا النقْض: صوت الأضلاع. وهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره.
قال النحاس:”فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل، وهو مغفور له، غير مطالب به ؟ فالجواب: أن سبيل الأنبياء- صلوات الله عليهم- والصالحين، إذا ما ذكروا ذنوبهم، أن يشتدَّ غمُّهم وبكاؤهم؛ فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل “.
سابعًا-وقوله تعالى:﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾(4)
معناه: أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى, قبل أن يرفعه له في الأرض، حين جعل اسمه عليه الصلاة والسلام مقرونًا باسمه جل وعلا. ورفع له ذكره في اللوح المحفوظ, حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون, وتكر الأجيال, وملايين الشفاه في كل مكان، تهتف بهذا الاسم الكريم, مع الصلاة والتسليم. ورفع له ذكره، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي الرفيع. وكان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر، لم ينلها أحد من قبل، ولا من بعد في هذا الوجود. وليس بعد هذا الرفع رفعٌ، وليس وراء هذه المنزلة منزلة.. إنه المقام، الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين.
وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك:” لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي “. وفيه حديث مرفوع، أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:” أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت: الله تعالى أعلم ! قال: إذا ذكرتُ، ذكرتَ معي “.
ولا يخفى ما في هذا الرفع لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف، بعد ذلك الوضع لأعبائه عنه. هذا الرفع، الذي تهون معه كل مشقة وتعب وعناء، وليس بعد هذا التكريم تكريم، وليس بعد هذا العطاء عطاء !
ثامنًا-ومع هذا كله، فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار, ويسرِّي عنه, ويؤنسه, ويطمئنه، ويطلعه على اليسر، الذي لا يفارقه، فيقول:
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾(5-6)
والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب، والعمل المقصود. وتعريفه للعهد. واليسر ضد العسر؛ وهو: سهولة تحصيل المرغوب، وعدم التعب فيه، وتنكيره في الموضعين للتفخيم والتعظيم؛ كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا ! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم، مَسوقٌ للتسلية، والتنفيس.
وقوله تعالى في الحملة الثانية:﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾يحتمل وجهين من التأويل:
الوجه الأول: أنه تكرير للجملة السابقة، لتأكيد معناها، وتقريره في النفوس، وتمكينه في القلوب، وهو نظير قولك: إن مع الفارس رمحًا، إن مع الفارس رمحًا، وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح؛ وذلك للإطناب والمبالغة. فعليه يكون اليسر فيها عين اليسر في الأولى، والمراد به ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يسر الدنيا مطلقًا.
والوجه الثاني: أنه ليس بتكرير للأول؛ وإنما هو تأسيس، ويكون الحاصل من الجملتين: أن مع كل عسر يسرين عظيمين. والظاهر أن المراد بذينك اليسرين: يسر دنيوي، ويسر أخروي. وفي حديث ابن مسعودأنه لما قرأ:
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾
قال:” لن يغلب عسر يسرين “. قيل: معناه: أن العسر بين يسرين؛ إما فرج عاجل في الدنيا، وإما ثواب آجل في الآخرة.
وقال الكرماني في( أسرار التكرار في القرآن ):” قوله تعالى:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ ليس بتكرار؛ لأن المعنى: إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل. فالعسر واحد واليسر اثنان “.
وعلى هذا يكون قوله تعالى:﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول. قال الألوسي:”واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد. كيف، وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما ! والمقام- كما تقدم- مقام التسلية والتنفيس.
وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر“.
والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مُرَدَّدًا بلفظ واحد. ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد. والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز..أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة.
وظاهر المعية في قوله تعالى:﴿ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن﴿ مَعَ ﴾ ظرف يدل على المصاحبة. ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن ﴿ مَعَ ﴾- هنا- مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله تعالى:
﴿ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ﴾(الطلاق: 7)
ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال عليه الصلاة والسلام:” لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله تعالى:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. إلخ ﴾. ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. ﴾.
تاسعًا- ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل وعلا لمواقع التيسير, وأسباب الانشراح, ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول سبحانه وتعالى:
﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾(الشرح: 7-
أي: إذا فرغت من عبادة- كتبليغ الوحي- فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه عز وجل، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، إذا ما فرغ من عبادة، أتبعها بأخرى.
والفراغ- في اللغة- خلاف الشُّغل. يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ. قال تعالى:
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ﴾(الرحمن: 31)
وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان. وقوله تعالى:
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً ﴾(القصص: 10)
قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف. وقيل: فارغًا من ذكره. أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم. وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال:
﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾(القصص: 10)
وظاهر قوله تعالى:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل﴿ فَرَغْتَ ﴾. وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره.
وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وجوعه من إحدى غزواته:” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.
وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى:﴿ فَانْصَبْ ﴾. أما قوله:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ ﴾ فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال، ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى؛ ولهذا قدِّم قوله:﴿ فَرَغْتَ ﴾ على قوله:﴿ فَانْصَبْ ﴾.
وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع، عقب وقوع الشرط مباشرة. وعليه يكون قوله تعالى:﴿ فَانْصَبْ ﴾ أمرًا بإحداث الفعل فورًا، بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير.
ثم أمره تعالى بأن يرغب إلى ربه وحده، فقال سبحانه:
﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾
أي: اصرف وجوه الرغبات إلى ربك وحده، لا إلى سواه، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقوله تعالى:﴿ فَارْغَبْ﴾ هو من الرَّغْبَة. والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾(الأنبياء: 90)
أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا.
فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه. قال تعالى:
﴿ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ﴾(التوبة: 59)
وعلى هذا يحمل قوله تعالى هنا:﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾(الصافات: 99)
وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله تعالى:
﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ ﴾(مريم:46)، وقوله تعالى:
﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾(النساء: 127)
فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:” وترغبون عن أن تنكحوهن“.
وقدم قوله تعالى:﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ على قوله:﴿ فَارْغَبْ ﴾، لإفادة معنى الاختصاص. أي: لتكن رغبتك إلى ربك، لا إلى غيره ؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الرب جل وعلا، الذي وعده في سورة الضحى أن يعطيه، حتى يرضى:
﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾(الضحى: 5)
وقد حقق له سبحانه هذا الوعد في هذه السورة، فشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وأعطاه من خير الدنيا والآخرة ما لم يعطه لأحد من قبله، ولا بعده.
ولم تمنع الفاء في قوله تعالى:﴿فَارْغَبْ ﴾، من تقديم المعمول:﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾، خلافًا للمشهور من أقوال النحاة؛ ولهذا نجدهم يتكلفون، فيقدرون عاملاّ محذوفًا لقوله:﴿ فَارْغَبْ ﴾، فيقولون: تقدير الكلام: وارغب إلى ربك، فارغب إليه. أو: وارغب إلى ربك، فارغبه.
والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل والتقدير ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك.. والله تعالى أعلم !
وهنا تنتهي السورة الكريمة، وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين: شعور بعظمة الودِّ الحبيب الجليل، الذي ينسم على روح الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه الودود الرحيم. وشعور بالعطف على شخصه صلى الله عليه وسلم، ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونة، التي اقتضت ذلك الود الجميل، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:” مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ، فكأنَّما جاءَنِي، وأنَا مُغْتمٌّ، ففرَّجَ عَنِّي “.